بطارية أديسون
في 1892 عرض هنري فورد السيارة التي تسير بالبنزين، ورأى أديسون أن يشارك صديقه فورد بأي اخترع في مجال السيارات، فرأى أديسون أن مشكلة السيارات في ذلك الحين تكمن في بطاريتها التي كانت تتسم بالضعف وكبر الحجم وثقل الوزن، فقرر أن يبتكر بطارية أخف وزنا وأكثر عمرا وأقوى بثلاث مرات على الأقل، فعكف على تنفيذ أفكاره وهو مساعديه، ولكن العملية احتاجت إلى مجهود رهيب والكثير من المحاولات الفاشلة، حتى أنهم اضطروا إلى تجربة معظم المعادن المعروفة للوصول إلى أفضل معدن يمكن أن تستخدم في هذا الابتكار، ويقال أنهم قاموا بتجربة 1903 معدن ومادة، حتى انتهى الفريق من تصميم البطارية التي تستخدم هيدروكسيد البوتاسيوم للتفاعل مع الأقطاب الكهربائية المصنوعة من النيكل، وهذه البطارية قابلة للشحن مرة أخرى. وقد وقع حادث أليم لأديسون وهو يركب إحدى البطاريات، حيث انفجر الحمض على وجهه، ويعلق أديسون على الحادث الذي كاد يفقده نعمة البصر: (لقد شعرت بألم عظيم، وخيّل إلي إنني أحرقت حيا، وأسرعت إلى الماء أصبه على وجهي دون فائدة، ورأيت وجهي في المرآة اسود قبيح، لأمكث أسبوعين لا اخرج من غرفتي، ولو كانت عيناي مفتوحتان لأصبحت اعمي, وبعد مدة نما جلدي من جديد وزالت آثار الحروق).
مبتكرات بلا حصر
اخترع أديسون العديد والعديد من المبتكرات العبقرية، حتى أن أحد الصحفيين صرح قائلا (انه يرمى المخترعات من كمه )، وهناك الكثير من الاختراعات التي لم يستطع أحد الاستفادة منها في ذلك الوقت، مثل ابتكار جهاز فصل الحديد عن الصخور، وكان هدفه بعث الحياة في مناجم الحديد القديمة في شرق الولايات لأنها مازالت تحتوي على كميات كبيرة من الحديد الخام، لكنه لم يكن نقيا، فاعتبر أن تنقيته ستعود بالسعادة عليه، ولكن اكتشاف مناجم أخرى للحديد في الغرب جعلت جهازه يفشل تجاريا، وابتكر أيضا آلة لصنع أثاث المنازل من مشتقات الأسمنت، فجرت عليه مبالغ رهيبة من المال، حتى أن شركته للأسمنت استطاعت انشاء ملعب لليانكي من الأسمنت!.
وفي الحرب العالمية الأولى اخترع نظام لتوليد البنزين ومشتقاته من النباتات، وعين مستشارا لرئيس الولايات المتحدة الأمريكية، ومن مخترعاته أيضا القطار الكهربائي والقداحة الكهربائية، وعشرات المبتكرات التي تمت للكهرباء بصلة، ولازال الرقم القياسي في مكتب براءات الاختراع بالولايات المتحدة الأمريكية مسجلا باسم توماس أديسون برقم 1093 اختراع. لحظة الحقيقة
في صغر العبقري، وفي احدى الليالي المظلمة اشتد المرض على أمه وقرر الطبيب أنها تحتاج لجراحة ولكن عليها الانتظار إلى الصباح، لأنه يحتاج إلى إضاءة قوية للعمل، وكانت هذه بمثابة لحظة الحقيقة في حياة توماس الذي عرف أن حياة أغلى الناس عليه قد تتوقف على شعلة من النور، فسطر توماس في مفكرته أنه لابد من إيجاد وسيلة للحصول على الضوء ليلا أقوى من ضوء الشموع، وظلت هذه الكلمات موجودة في مفكرته لسنوات طويلة قبل ان يشرع أبحاثه ليخرج بمعجزته العبقرية، التي شكلت نقطة تحول في تاريخ الحضارة الحديثة.
بداية الحلم
بقت المصابيح الكهربائية خارج الاهتمام التجاري لفترة طويلة، فقد عرض عالم الفيزياء همفري دافي عام 1810 مصباح القوس الكهربائي، الذي يتألف من قضيبين مدببين من الفحم، ويطبق على القضيب فلطية كهربائية عالية، ويشتعل هذا القوس الكهربائي بشدة عن اقتراب القضيبان من بعضهما، ولكن هذا الاختراع لم يكن له قيمة تجارية نظرا لعدم توافر منابع الكهرباء القوية. وقد ابتكر الأمريكي شارلز براش عام 1876، مصابيح مقوسة تشتعل بقوة، ولكنها استخدمت لإضاءة الشوارع الرئيسية فقط، لأن لها صوت مرتفع يشبه الأزيز، وإنارة شديدة للغاية، ولا تصلح إلا لساعات معدودة ثم تحترق. وفي 1877 زار أديسون أول معمل للدينامو، الذي جلب له فكرة جديدة لإنتاج المصباح المتوهج، فصرح للصحافة بنظرة إلى المستقبل: ( سيأتي اليوم الذي نستطيع فيه اضاءة كل المنازل وتشغيل كل المعامل بواسطة الأجهزة الكهربائية، ونكتفي بلمسة زر لنحصل على النور وسط الظلام الدامس). وعلى إثر هذا التصريح ظل أديسون يعمل مع 50 عاملا ليل نهار في مينلو بارك لتحقيق الهدف الذي يعتقد العلم باستحالة الوصول إليه، وتركز البحث عن إيجاد سلك حراري يشتغل وقتا طويلا، وجرب أديسون المعادن واحدا بعد الأخر، فاستعمل في البدء خيطا من الورق المفحم ليعطي ضوء أبيض لمدة عشر دقائق قبل أن يحترق، وكان هذا هو المصباح المتوهج الأول، وظل أديسون يجرب المعادن كالكروم والبلاتين.
المعجزة المشرقة
في 21 أكتوبر 1879 تنفس أديسون الصعداء، حيث وضع قطعة من خيوط القطن المكربن داخل كرة زجاجية، ومستفيدا من تجاربه السابقة جرب أديسون أن يفرغ الزجاجة من الهواء، ثم أدير التيار الكهربائي فتوهج الفتيل، وتابع الحاضرون المصباح ساعة تلو الأخرى والكل يعد الدقائق في انتظار احتراقه، ولكنه استمر هذه المرة لمدة 45 ساعة قبل أن يحترق، وهنا هلل الجميع، ولكن أديسون أخبر مساعديه أن المصباح طالما عمل لهذه المدة، فيمكن إضاءته لمئة ساعة، وظل يبحث عن مادة أفضل لصنع الفتيل، حتى اكتشف أن الخيزران هو أفضل مادة لهذه الغاية، وبعد سنوات وفق إلى صنع سلك من مزيج من الألياف المستخرجة من النباتات، ولا يزال هذا المزيج يستعمل حتى اليوم ولكنه مغلف بمعدن التانجستين المقاوم للحرارة. وعلق أديسون المصابيح حول معمله لأغراضه الاختبارية، وانتشر النبأ بأن الساحر حقق المعجزة، وفي ليلة رأس السنة حضر ثلاث آلاف زائر لرؤية المصابيح التي ظلت مشتعلة حتى فجر اليوم الأول من عام 1880، ليصبح أسم أديسون أبو المصابيح المتوهجة. وأصبح هم العبقري في المرحلة التالية أن تصبح المصابيح من حق الجميع، فاستمر في العمل على شبكة كهرباء شبه مركزية حتى شهر سبتمبر 1882، قبل أن يدير المفتاح الرئيسي ويضئ 400 مصباح في وقت واحد، معلنا انتهاء عصر السرج والأتاريك والظلام، وبداية عصر الكهرباء والضوء. يقول العالم الفيزيائي لارسن عن تلك المرحلة: ( أسس أديسون الطريقة العلمية لإمداد المنازل بالكهرباء، وبعدما أضاء أمريكا، سمع الناس في أوروبا بهذا الحدث العظيم، فكان الناس يراسلونه قائلين: تعال أنر مدننا.). وقد اشتعلت الحرب بين العالم البريطاني ويلسون سوان الذي قدم عدة عروض ناجحة لمصابيح متوهجة، كان أولها في 3 فبراير 1879، ولكن مشاعر المنافسة زالت سريعا وانضم سوان إلى شركة أديسون لصناعة المصابيح (شركة أديسون للإضاءة الكهربائية والتدفئة). كان هدف أديسون في تلك المرحلة هو إنتاج مليون مصباح كهربي، وكانت هذه الشركة مكانا رائعا لجذب المواهب وتدريب المهارات، فتخرج على يديه الكثير من ذوي الابتكار والمهارة، ومن بينهم المخترع الصربي نقولا تيسلا Nikola Tesla.
حرب التيارات الكهربائية
في السنوات الثلاث التالية بنى أديسون أول محطة شبه مركزية للطاقة، وأضاء مراكز الشركات التجارية والمصانع ومكاتب الصحف والمسارح في نيويورك، وأنشأ أول شارة كهربائية في لندن، ومحطات أخرى في إيطاليا وبرلين وتشيلي. وأنشاء في الولايات وحدها أكثر من 121 محطة كهربائية تقوم بتوصيل التيار المتسمر سميت باسم أديسون، ولكن مع انتشار الطلب على الكهرباء ودخولها المنازل، برزت أهم عيوب التيار الكهربائي المستمر وهو أنه يفقد جزء من قوته بعد قطعه مسافة قصيرة تقدر بالميل الواحد، وهنا بدأ العلماء البحث عن حل عملي يرضي شركات الكهرباء والمستهلكين، وهنا تواجه صاحبي قلعتين صناعيتين في واحدة من أسوأ المواجهات التي شهدها عالم المال في جملة تاريخه، حيث استمر أديسون في تأييده للتيار المستمر، بينما ظهر على الطرف الأخر العالم الصربي نيكولا تيسلا، الذي استطاع أن يطور نظام التيار الكهربائي المتناوب أو المتردد، ويتمثل أهم مزايا هذا النظام في قدرته على التوصيل الكهربائي لمسافات طويلة جدا، وكان يساند تيسلا في دعوته إلى التيار المتناوب العالم ورجل الأعمال الشهير جورج ويستينغهاوس George Westinghouse ، واستمرت حرب التيارات لفترة بين الطرفين، حتى أن رجال أديسون كانوا يطاردون تيسلا في كل مكان واصفين التيار المتردد بأنه سينهي على أمل البشرية في التقدم!. وكان من الواضح أن أديسون سينتصر في معركته لا محالة، خاصة بعدما فقد تيسلا التمويل من الجامعة ومن صديقه ويستينغهاوس، ولكن انقلبت الأدوار في النهاية وخسر أديسون تلك المعركة لأنه تعامل بغرور مع المسألة دون النظر إلى الفائدة العلمية العائدة من استخدام التيار المتردد، واعتمدت أغلب شركات الكهرباء في محطات التوليد والتوصيل في العالم على التيار المتردد، وبسبب خسارة أديسون هذه المعركة، فقد أديسون السيطرة على نظام التشغيل المتحكم في كل اختراعاته التالية، وعلى الأخص شركة جنرال اليكتريك للأجهزة الكهربائية التي أسسها فيما بعد.
أحداث مؤثرة
توفيت نانسي أديسون والدة توماس في العام 1871، فأثر ذلك في نفسه تأثيرا عميقا، حتى أنه كان يصعب عليه الحديث عنها دون أن تمتلئ عيناه بالدموع، وتزوج من سكرتيرته(ماري) في عام 1873، ولكنها ماتت في العام 1884 بمرض التيفود بعدما رزقا بثلاثة أبناء، ثم تزوج من ابنة المخترع لويس ميلر في عام 1886، ورزق منها بثلاثة أبناء، وعندما كان النقاش يشتد بحيث يصعب على أديسون متابعته نظرا لعاهة الصمم، كانت زوجته تنقل له المحادثة بالنقر على كتفه بلغة مورس، وظل ممتنا لعمله بالتلغراف، حتى أنه أسمى اثنين من أبنائه باسم بيت وداش، وهما رمزان مستخدمان في لغة التلغراف.
أديسون وجائزة نوبل
قررت الأكاديمية السويدية للعلوم منح توماس أديسون ونيقولا تيسلا جائزة نوبل للفيزياء بالمشاركة، لجهودهما في مجال الفيزياء التجريبية عام 1916، ولكن أديسون رفض تقاسم الجائزة مع تيسلا، فحجبت عنهما معا، ولكن التاريخ عاد ليخلدهما معا حيث أطلق اسم العالمين على معلمين مهمين من معالم جغرافية القمر. والمؤرخون يعتبرون التقدم العلمي قد مر بثلاث مراحل، المرحلة الأولى هي ظهور الآلات البخارية، والمرحلة الثانية هي اختراع الكهرباء وظهور مخترعات أديسون، والمرحلة الثالثة هي ظهور النظرية الالكترونية المادية.
وفاته
في 18 أكتوبر 1931 أطفأت أمريكا كل المصابيح الكهربائية، لتعيش ليلة واحدة أخيرة في ظلام مطبق، لقد رحل العالم العظيم توماس أديسون، لقد رحل أبو المصابيح المتوهجة، الذي لم يوقفه سوى الموت عن أبحاثه ومنجزاته واختراعاته، وقد نال هذا العبقري التكريم اللازم عندما أطلق عليه لقب رجل الألفية(The Man of the Millennium)، وكان هذا اعترافا من العالم ومن التاريخ بعظمة وعبقرية هذا الرجل.